إبراهيم عوض . . الصوت الذي نقل الحقيبة إلى حداثة الغناء
بقلم - عيسى الحلو
إبراهيم عوض ليس كغيره من المبدعين فهو إلى جانب قدراته الفنية كمبدع إلى أنه كان من أهم رواد التجديد الغنائي في السودان . . بل إستطاع أن يشكل مرحلة فنية كاملة لها خصائصها الفكرية والجمالية ولهذا بالضبط فإن النقد الفني الذي يتناول هذا المبدع الضخم لآبد أن يتبع منهجا نقديا خليطا يجمع بين حقول معرفية عديدة , فلأبد عندئذ من إستخدام ادوات منهج علم الإجتماع حينما يريد وضع هذه الظاهرة الفنية وسط ظروفها التاريخية والإجتماعية وذلك بحسبان أن فترة إبراهيم عوض هي فترة تحول فني وإجتماعي وسياسي كاملة تتضافر فيها كل العوامل التي تتحرك من نقطة تاريخية وإجتماعية محددة الملامح في مسارها القاصد والمتحول لبناء مرحلة جديدة وهذه هي القيمة الحقيقية لفن هذا الفنان ( فنان جديد . . يصنع فترة ومرحلة غنائية جديدة ) .
- تبادل التأثير بين الفنان وزمانه
إن ريادة إبراهيم عوض للحداثة الغنائية لم تكن مصادفة بل أن هذه الريادة كانت شبه حتمية فبمثلما يصنع الأفراد التاريخ فإن التاريخ بدوره يصنعهم . . وعندما يصبح هؤلا الأفراد رموزا فانهم يصبحون شكلا من أشكال تجليات التاريخ وبذا يكون التاثير متبادلا مابين العبقرية الإبداعية الفردية والعبقرية الجماعية للزمان والمكان .
ولهذا فقد اختارت هذه الأقدار بوصفها مصادفات وحتميات مجموعة هائلة من التفاصيل . . تفاعلت هذه التفاصيل في حراك قوي وتواطات كلها لتعطينا هذه الفن الجديد الرائع حينما جمعت مصادفة عجيبة بين شاعر الحقيبة عبد الرحمن الريح صاحب القصيدة الغنائية القديمة التي التي انعدم زمانها كان يشعر بشكل خفي أن هناك غناءا جديدا سيأتي وهكذا عندما وجد عبد الرحمن الريح هذا الصوت كان الشاعر يعرف إن هذا الصوت سيصنع قصيدة غنائية . . تاليفا ولحنا جديدا . . إذا فمقدرات صوت إبراهيم عوض كانت كلها مخفية ببشاراتها . . كان الصوت وعدا جديدا يكتب نفسه كلها ورنينها غناءا جديدا .
فعندما قال الفنان الكبير محمد وردي فيما بعد أنه تلميذ لمدرسة إبراهيم عوض فهو يقصد ما قاله الموسيقي أنس العاقب ايضا . . إذ يقول أنس العاقب : إن إبراهيم عوض هو الذي شكل فضاء واسعا وجديدا لكل الأصوات ( مضمونا وشكلا ) التي غنت غناءا جديدا فانتقلت الأغنية من معمارها الموسيقي اللحني وفي معمارها الكلامي لشكل جديد .
- التجديد والتحولات
جاء صوت إبراهيم عوض إذا ليعبر عن مرحلة جديدة . . مرحلة إنتشر فيها التعليم . . مرحلة فنية كانت على صلة بحركة التجديد الفني في كل العالم , هذا بالطبع ان حداثة الحياة السودانية كلها أخذه في التفتيح بعد الإستقلال ونضجت هذه الحداثة عند إستكمال السودان دستوره وبناء حياته السياسية وتدفقت حيوية الحداثة لتبني كل مرافق الحياة في كل المؤسسات القومية .
وهنا بالضبط كان التلقي الجمالي الجماهيري مرتبطا بهذا التحول وإنتقلت هذه الذائقة من الإرتباط باغنية مثل ( رحماك يا ملاك ) لأغنية بريدك لو سقيتني السم بايدك ومن أغنية ( يا ملاكي التائه في سماك ) لأغنية مثل يا خائن .
- الذائقة الجمالية وتحولات العاطفة
الوجدان العاطفي في شرقنا العربي عموما هو صنيعة عوامل عديدة . . القهر السياسي الذي كان يمارسه المستعمر ابان فترة حكمه وإنتشار الأدب الصوفي وهيمنة الأدب داخل الأسرة والفقر . . شكلت كلها وجدانا عاجزا عن فعل التغيير السياسي والإجتماعي فاصبح الوجدان مسكينا . . ولكن في هذه المرحلة التي اختارت صوت إبراهيم عوض لتتجلى عبره كمفاهيم وافكار وانفعالات كانت تحدد الشكل الجمالي والمضمون بناء على الشكل المستجد الذي أخذ في التشكيل الجديد , فكان ميسم الرفض والتمرد على الانماط المسكينة والمقهورة . . قد رفض هذا القهر على الصعيدين السياسي والإجتماعي والعاطفي . وكانت روح الحداثة وما بعد الحداثة تسود العالم كله وفي امريكا ظهر المغني الفيس بريسلي بصوته المرتجف وجسده المرتعش بالنغم , أنه إنقلاب فني كامل ساد كل ميادين التعبير في الفن والفكر والصحافة . . وفي شرقنا العربي ظهر عبد الحليم حافظ بصحبة جماعة من الملحنين الجدد فصنعوا الأغنية الحديثة التي تجاوزت أم كلثوم لانها أغنية تعبر عن الجديد الأخذ في التشكيل ولهذا السبب كان عبد الحليم والموجي والطويل وبليغ حمدي يشكلون غناء مرحلة سياسية وإجتماعية كاملة مثلما مثل إبراهيم عوض مرحلة جديدة كاملة .-
منزلة إبراهيم عوض بين المطربين
إبراهيم عوض بوصفه الفردي صاحب صوت عريض وواسع وله قدره على الأداء الخاص والمميز , يتعدد ويتنوع ملحنو أغانيه ولكنه في كل لحن هو إبراهيم المتفرد صوته له نبراته الخاصة ( الصهلة ) صوت كجناح نسر يتوازن كله في التحليق والطيران . . إن الفنان العبقري عبد العزيز محمد داؤود صاحب أقوى صوت غنائي في السودان وصوته يضم كل الصوات الغنائية ( الغليظ والحاد والسوبرانو والاوبرالي ) ولكن عبد العزيز العبقري لايمثل مرحلة كما يمثل إبراهيم عوض . . كابلي العظيم صاحب تكنيك في الأداء. . وردي الصوت الجميل والمعمار الغنائي والكلامي هو تطوير مثقف لموقف إبراهيم عوض . . لذا فقيمة غبراهيم عوض الفينة هي جماع خصائص عبقريته الفردية إضافة لعبقرية زمانه , قطعا . . إبراهيم عوض فنان محظوظ لانه جاء في زمان جميل , زمان عصر النهضة السودانية بشكل كامل .
ولك ان تتصور هذا الأمر ترادف الفنان وزمانه حينما تقف عند قدرة فنية شابة جديدة . . محمود عبد العزيز صاحب الصوت الذي قال عنه برعي محمد دفع الله : ان محمود عبد العزيز رغم حداثة عمره إلى أنه يغني بتجربة ثلاثين سنة صوت قوي وناضج ولكن محمود جاء في الزمن الخطأ فلم يستطيع ان يصنع غناءا جديدا كما فعل إبراهيم عوض الذي شكل مرحلة جديدة وهذه هي قيمة إبراهيم عوض .
ومنزلته عندي هي كمنزلة الطيب صالح في الرواية . . مرحلة كاملة ورغم إحترامي لجهود الخرين من الكتاب الروائيين هنا , فلم يستطيع أحدهم أن يشكل مرحلة كما شكلها الطيب صالح او إبراهيم عوض . . هذا ليس بسبب صغر حجم مواهبهم ولكن الطيب وإبراهيم كان التاريخ العام قد اختارهما للتعبير عن مرحلة شديدة الخصوصية ودقيقة التفاصيل حيث كانت هذه التفاصيل تتواطا كلها لتجعلهما كموهبتين في كامل توهجهما العبقري ليعبرا عن تبادل التأثير بين العبقرية الفردية والعبقرية العامة .
إن للتاريخ دورات في كل دورة يدفع للحياة بمواهب تجدد دورات هذه الحياة والحياة في درواتها هذه لاتعيد أشكال الأبنية السابقة فالحياة كضرورة نماء وتقدم تختار بإستمرار عناصر نمائها وتوهجها حينما تختار منا الأقوى والأجمل والأكثر قدرة على البناء .
الفنان والإستمرارية
إن إستمرارية إبراهيم عوض هي من الأستمرارية كحراك فردي وبمثلما جاء بعد إبراهيم عوض الفنان محمد وردي فالحياة السودانية كلها في كافة مستوياتها تتنظر روادا أخرين قادرين على إبداع كل الحياة السودانية في مرحلة ما بعد الحداثة . . فاهلا بالمبدعين الجدد في كل ضروب الفكر والفن .
الفن الذي سيأتي
الحياة لاتكرر مضامينها ولا أشكالها . . هي إبتكار متجدد والحداثة هي دائما هي إنقطاع بدرجة أو اخرى عن المنجز التاريخي والمازق الحقيقي الذي يجد الفنان الجديد مواجها به هو من اين يبدأ ؟ وكيف يبدأ . .
وهي اسئلة تفترض معرفة كاملة للراهن الحاضر إذ أن الحداثة تعني بالحاضر ولكن هذا الحاضر هو حاصل جمع الماضي والمستقبل . . بدون هذا الوعي التاريخي أشك في اننا سنحصل على فن كبير وقوي كذاك الذي جادت به عبقريات السودان في كافة مجالات نهضتنا القومية قبل نصف قرن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق